نصف يوم مع “آخِر” يهودي عربي

بقلم خالد دياب

يعتقد ساسون سومخ، الشاعر والكاتب وصديق الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ، ان الأدب  يتسامى على السياسة

الخميس 9 اغسطس 2012

English version

بوجود هذا الغموض الذي يكتنف الجو، هذه أوقات مزعجة للعلاقات العربي الإسرائيلية. ولكن رجلاً واحداً يصرّ على الحفاظ على أرجله مزروعة بعمق على جانبي هذا الصدع

يصف ساسون سومخ نفسه كيهودي وعربي في الوقت نفسه، كعراقي وإسرائيلي. دعاني هذا الشاعر والأكاديمي والكاتب ومترجم الأدب العربي إلى العبرية لقضاء “نصف يوم” معه في تلميح ذكي لقصة قصيرة غير شائعة كتبها نجيب محفوظ، المصري الحائز على جائزة نوبل. تسرد هذه الرواية الرمزية التي كُتبت في سنوات نجيب محفوظ المتأخرة الكثيرة الإنتاج، أحداث نصف يوم فقط يدخل فيها الراوي أبواب المدرسة للمرة الأولى كفتى صغير في الصباح ويخرج في المساء رجلاً كبيراً في السن

“كيف حدث ذلك كله في نصف يوم، بين الصباح المبكر والغروب؟”، يتساءل الراوي المسن محتاراً

تساءلْت مثله، بينما أبحر هذا الرجل السلحفاة المتقد ذكاءاً، البطئ في حركته والسريع في تفكيره عبر الزمن والمساحة ليأخذني في رحلة مذهلة من إسرائيل المعاصرة في سنواته الفضية عودة إلى عالم شبابه الذي اختفى في بغداد اليهودية، والذي يستحضره ببلاغة في مذكراته “بغداد الأمس”، عبر صالونات الأدب المصري في شبابه

يستذكر سومخ، الذي ولد في بغداد عام 1933 في أسرة يهودية ميسورة من الطبقة الوسطى، أوقاتاً قضاها يسبح في نهر دجلة العظيم ويذهب في رحلات ونزهات حوله. “تلك كانت أكثر أيام حياتي بهجة وسروراً”، يستذكر بحزن

شكّل اليهود في تلك الأيام حوالي ثلث سكان العاصمة العراقية. “عندما كنتَ تمشي في شارع الرشيد الرئيسي في بغداد، كان نصف أسماء المتاجر والمكاتب يهودية”، يشير سومخ

أدى الوجود اليهودي القديم في العراق إلى أشكال مثيرة للانتباه من التكامل الثقافي: كان اليهود العراقيون يكتبون العربية تقليدياً بالحروف العبرية، وكان اليهود البغداديون يتكلّمون لهجة عامية كانت قد ماتت بين المسلمين والمسيحيين. أثّر اليهود كذلك على حياة العراق اليومية. على سبيل المثال، يستذكر سومخ بعض الشيعة الذين عملوا لدى بعض الأعمال اليهودية وهم يحوّلون يوم إجازتهم الأسبوعية إلى السبت.

وخلال سنوات مراهقته، كان سومخ شاعراً واعداً قضى أوقاتاً في صالونات بغداد الأدبية النشطة، ونجح في نشر بعض أشعاره وقصائده. ولكن أحلامه الشابة الوردية بمستقبلاً أدبياً لامعاً في وطنه توقفت بوقاحة من قبل التاريخ والصفائح التكتونية للسياسات الجغرافية

ورغم أن الغالبية الساحقة لليهود العراقيين لم تلعب دوراً في ما حصل للفلسطينيين، إلا أن اللائمة ألقيت عليهم رغم ذلك، وأصبح الوضع غير محتمل لهم بحلول العام 1951

جرى إسكان المهاجرين اليهود في إسرائيل، مثلهم مثل الفلسطينيين في مخيمات مؤقتة، وكانت تلك خطوة هائلة إلى الأسفل بالنسبة لعائلة سومخ، التي انتقلت من وسائل الراحة والنفوذ والاحترام التي تمتعت بها في بغداد. ولكن الأسرة وقفت على قدميها في نهاية المطاف، ورفض ساسون سومخ الشاب الاستسلام وترك أحلامه الأدبية، “الأدب هو الأدب. السياسة لا تدخل به”، أخبرني ببساطة لا تترك لك مجالاً للنقاش.

لم ينخرط سومخ في المجلة الأدبية الإسرائيلية الوحيدة باللغة العربية فحسب، وإنما ضاعف جهوده لتعلُّم العبرية حتى يتمكن من ترجمة الشعر العربي إلى لغته القديمة الجديدة

كان الإنجاز الكبير لسومخ هو أنه أصبح واحداً من المراجع الرئيسية حول نجيب محفوظ. عندما اهتم سومخ للمرة الأولى بالكاتب المصري كان محفوظ ما يزال غير معروف تقريباً خارج العالم العربي

تفتّح الاهتمام الفكري بسرعة ليصبح صداقة خلافية (إذا أخذنا بالاعتبار المقاطعة العربية لإسرائيل) بين الكاتب المصري وناقده الإسرائيلي. حافظ الرجلان على تواصل لسنوات عديدة، وتمكن صديق المراسلة أخيراً من دعم صداقتهما عندما انتقل سومخ إلى القاهرة في منتصف تسعينات القرن الماضي

“عرف شعبانا صداقة استثنائية”، قال محفوظ لسومخ في إحدى المرات. “أحلم بيوم تصبح فيه المنطقة وطناً يفيض بأنوار العلوم، تباركه أعلى ميادين الجنة، بفضل التعاون بيننا”

كانت تلك هي رؤية التسوية العربية الإسرائيلية النهائية التي يبدو أن سومخ، الذي يصف نفسه بأنه “آخر يهودي عربي”، لأن جيله هو آخر جيل يهودي يتذكر بوضوح العيش بسلام بين العرب، قد كرّس حياته من خلالها، لبناء جسور التفاهم الثقافي

ورغم أنه يعترف أن جهوده لم تؤتِ أية نتائج ذات أهمية، إلا أنه يعمل بجد رغم ذلك. وربما في يوم من الأيام، وفي مستقبل أكثر سلاماً، سوف نلقي نظرة إلى الوراء على سومخ ومحفوظ وغيرهما من أمثالهما، ليس كغريبي أطوار مضللين، وإنما كأصحاب رؤية شجعان

This article which was first published by The Common Ground News Service on Tuesday 31 July 2012.

Author

  • Khaled Diab

    Khaled Diab is an award-winning journalist, blogger and writer who has been based in Tunis, Jerusalem, Brussels, Geneva and Cairo. Khaled also gives talks and is regularly interviewed by the print and audiovisual media. Khaled Diab is the author of two books: Islam for the Politically Incorrect (2017) and Intimate Enemies: Living with and in the Holy Land (2014). In 2014, the Anna Lindh Foundation awarded Khaled its Mediterranean Journalist Award in the press category. This website, The Chronikler, won the 2012 Best of the Blogs (BOBs) for the best English- blog. Khaled was longlisted for the Orwell journalism prize in 2020. In addition, Khaled works as communications director for an environmental NGO based in Brussels. He has also worked as a communications consultant to intergovernmental organisations, such as the EU and the UN, as well as civil society. Khaled lives with his beautiful and brilliant wife, Katleen, who works in humanitarian aid. The foursome is completed by Iskander, their smart, creative and artistic son, and Sky, their mischievous and footballing cat. Egyptian by birth, Khaled's life has been divided between the and Europe. He grew up in and the UK, and has lived in Belgium, on and off, since 2001. He holds dual Egyptian-Belgian nationality.

For more insights

Sign up to receive the latest from The Chronikler

We don't spam!

For more insights

Sign up to receive the latest from The Chronikler

We don't spam!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

error

Enjoyed your visit? Please spread the word